فن

من نجيب محفوظ إلى هاروكي موراكامي: كيف يوصلنا الروتين الصارم للعالمية؟

الروتين هو سر نجاح الإنسان في العموم.. ترى كيف ساعد الأديبين نجيب محفوظ وهاروكي موراكامي في الوصول للعالمية؟

future هاروكي موراكامي ونجيب محفوظ

لحظة تجلي إلهام سماوي وانفراجة في مكامن العقل البشري الضيق شرارة تضيء في الرأس وصعقة من صعقات باندورا تجعل الإنسان محموماً بفكرة معينة غارقاً في الفضول يريد أن يكتشفها حتى آخرها، لكن هذه المرة هو نفسه من يصنع الفكرة، الفنان نفسه من يناطح الفن في مطلقه حتى يصنع فنه الخاص، فبعيداً عن الحياة المملة والروتينية التي يعيشها الموظفون وأصحاب الوظائف التقليدية يعيش الفنان حياة مختلفة يحركه فيها الشغف والإبداع.

هكذا نفكر حينما نفكر في الفنانين، لكن بالنظر الدقيق لحياة بعضهم سنجد أن هذه الرؤية غير صحيحة، وقد وجدت مكاناً لتبقى في الرؤوس بسبب الرمسنة -الرومانسية- المصاحبة لها فقط، ولكن بمتابعة حياة اثنين من أهم الكتاب في تاريخنا سنجد أن السردية التي بدأنا بها تنهار بأكملها.

هاروكي موراكامي: الكرة التي خلقت كاتباً

الكاتب والأديب الياباني هاروكي موراكامي

أكمل عامه الـ30 ولم يفكر قط في أن يصبح أديباً أو أن تسود الأوراق تحت يده واحدة بعد أخرى، كانت حياته متواضعة وهادئة، تزوج المرأة التي أحبها وعملا معاً في الحانة الخاصة بهما، كان يشرف على الحساب، ويتابع طلبات الزبائن ويخلط المشروبات المختلفة، ويعمل طوال اليوم بجهد ومن دون كلل، وفي أحد الأيام ذهب لمشاهدة مباراة بيسبول في ملعب جينجو، في هذا الوقت كان عمل المقهى يشغله عن كثير من الأشياء، لكنه لم يشغله عن متابعة الرياضة التي يحب أن يشاهدها لا أن يمارسها. كانت الكرة تتحرك بسرعة أمام عين هاروكي، تحرك معها جسده مثل آلاف الجماهير، ووقعت في يد الحارس، لقد صد الكرة، مما أشعل حماس الجماهير وبدأ صراخهم، في هذه اللحظة، نظر هاروكي لحماسهم وللكرة، وشعر أنه يريد أن يكتب، ليست الكتابة عموماً بل يريد أن يصبح روائياً، قام من كرسيه مدفوعاً بفكرته، محموماً بالوحي الجديد وذهب يشتري قلماً غالي الثمن وأوراقاً، وعاد للمنزل، وحُمى الكتابة تمتلكه للمرة الأولى، أنزل القلم على الأوراق، ولم يرفعه منذ ذلك الحين في نهاية سبعينيات القرن الماضي.

روتين الكتابة والعمل

يعرف الشعب الياباني أنه يحب العمل، ويسير وفق روتين محدد، لكن حياة بهذه العملية، قد تفسد الفن والأدب ولا تخلق الجمال، وهذا النقاش يظل قائماً إلى أن نرى حياة هاروكي موراكامي، فالشاب الذي قفز في مباراة البيسبول وقرر أن يفعل ما فعله شكسبير وكافكا، قرر أن يتبع روتيناً معيناً في حياته، وذلك حيث تشغل الحانة معظم وقته، كان من الصعب أن يغير وقت العمل فتركه كما هو، وقرر أن يكتب عندما يعود للمنزل، كل يوم يعمل حتى الصباح، ثم يذهب للمنزل بسرعة، ويجلس على طاولة المطبخ ويكتب حتى يتملك منه النوم فيسلم أجفانه له، وحينما يستيقظ يذهب إلى العمل، وقد ساعده هذا الروتين بصورة كبيرة على إخراج روايته الأولى التي دفعه نجاحها إلى الأمام.

روتين الكتابة والجسد

نجحت أعمال موراكامي، وتحولت الكتابة من حلم بعيد وفكرة غريبة ضربت رأسه فجأة، إلى أمر حقيقي وأصبح اسمه يذكر مع كبار الأدباء في اليابان والعالم، ترك هاروكي المقهى وابتعد مع زوجته في مكان ريفي، لكن المدهش عند هاروكي أنه لم يكن يكتب كتابات جيدة ويتمتع بخيال واسع وعوالم سحرية فقط، بل قدرته على كتابة هذه العوالم بلا توقف، إنتاجية عجيبة قلما نجدها عند كاتب كبير، بل ربما لا ينافسه في ذلك إلا نجيب محفوظ، وبالطبع ستفين كينج الذي أنهى في الأقل رواية من 400 صفحة وأنا أكتب هذه الفقرة. الإنتاجية الكبيرة لهاروكي جعلته محطة اهتمام من العالم، وكشفت هذه الوصفة السحرية للمرة الأولى في لقاء صحافي عام 2004 في مجلة Theparisreview.

من مقابلة صحفية مع هاروكي موراكامي عام 2004 في مجلة Theparisreview

حينما ازداد جلوسه على طاولة المطبخ شعر هاروكي أن وزنه يزداد بسرعة كبيرة، كما أنه لا يتوقف عن شرب السجائر، وكان يدخن يومياً ما لا يقل عن 60 سيجارة، لكن الكتابة التي دخلت حياته فجأة وضعت عليه مسؤولية جديدة، فها هو يتأمل جسده المعبأ برائحة التبغ والدخان، ويشاهد زيادة وزنه وضعفه، بهذه الطريقة لن يكمل كثيراً في عالم الأدب، فكر هاروكي وقتها في الجري، وكان يريد أن يعرف ماذا سيحدث إن بدأ بالركض، والأمر الذي بدأ بالتجربة لم يتوقف. بدأ روتين هاروكي يتغير بصورة كبيرة، لا من أجل توفير ساعات للكتابة فقط، بل من أجل توفير صحة جيدة تساعد في عملية الكتابة.

يبدأ هاروكي يومه الرابعة فجراً، ويبدأ بالكتابة ولا يتوقف إلا بعد مرور خمس أو ست ساعات، ومع حلول ساعات الظهيرة يرتدي ملابسه الرياضية ويذهب للجري لـ10 كيلومترات، أو السباحة لمسافة 500 متر، وفي أحياناً كثيرة، يقوم بالأمرين معاً، عند الانتهاء من الرياضة، يذهب للمنزل ويبدأ بالقراءة أو الترجمة، ثم يسمع الموسيقى، ويخلد للنوم في التاسعة مساءً، ويرى هاروكي أن الجري والسباحة وممارسة الرياضة بصورة عامة يساعده أيضاً في الحفاظ على روتينه واستمراره، فروتينه ليس بالأمر السهل على كل حال، هذه القوة التي يحاول التمسك بها هي التي تدفعه للكتابة أكثر وأكثر، مثل الساموراي الذي يهلك نفسه في التدريبات الشاقة حتى يصل لهدفه النهائي.

روتين الأديب الذي لم يخرج من عباءة الموظف

الأديب المصري نجيب محفوظ

لم تختلف رحلة نجيب محفوظ الأدبية كثيراً عن هاروكي موراكامي، فنجيب أيضاً يقدس الروتين وكان يرفض وصف الناس للكاتب بأنه شخص غير منظم ومندفع، والحقيقة أن النظام والروتين كانا الخيار الوحيد للأديب منذ طفولته، ففي أيام الدراسة لم تكن عائلته لتسمح له بالرسوب، وكان نجيب يعلم آثار ذلك، فقرر وضع نظام صارم يمكنه من النجاح خلال سنوات دراسته دون مشكلات، وحينما بدأ الكتابة وجد لديه مشكلة أخرى، فالكتابة ليست حياة الكاتب كما يتخيل البعض، بل هي نشاط يمارسه خلال يومه، وكان نجيب يحب السينما، ويحب لعب الكرة، ويحب سماع الموسيقى، ويحب الذهاب للقهوة، وبالطبع يحب القراءة، وكما كان لا يترك احتمالاً للرسوب عرف أنه لا يجب أن يترك احتمالاً للتقصير في نشاط من هذه الأنشطة.

وضع الأديب الكبير نظاماً دقيقاً لحياته، فكان يقول: «البيت للقراءة، والكتابة، والتأمل، والمقهى للأصدقاء، والحديقة لحب الطبيعة». عرف نجيب محفوظ طريق الكتابة وبرع بها، ومع ذلك قرر عدم التخلي عن وظيفته الحكومية في وزارة الأوقاف، بل وجد أن الوظيفة تعطيه الأمان والاطمئنان الذي يحتاج إليه حتى يبدع في الكتابة ولا ينتظر منها مقابل.

كان نجيب يبدأ يومه في الصباح الباكر حتى يذهب لوظيفته، وحينما يعود منها ظهراً يتناول الغداء، ويترك أجفانه للنوم والأحلام يتصرفا فيها كيفما شاءوا، وعندما يستيقظ يبدأ حياته الأدبية، يكتب لثلاث ساعات، بين الرابعة عصراً والسابعة مساءً، ثم يبدأ بعدها بالقراءة لمدة ثلاث ساعات أيضاً، وكان يرى أن هذا الترتيب هو الأنسب له، فلو بدأ بالقراءة أصابته الكتابة بالصداع الذي يحرمه من النوم ليلاً، أما عن ثلاث ساعات الكتابة، فكانوا يبدؤون بطقوس معينة، يضع الكاتب أحد شرائط أم كلثوم، وينتظر حتى يملأ صوتها المكان، بينما يتحرك هو ذهاباً وإياباً في مكتبه، وبعد ذلك، يوقف الست، ويضع موسيقى كلاسيكية ويترك تأثيرها يتسلل إليه حتى ينهي الكتابة، لكنه لا يفكر بها مباشرة، أما يده فكانت لا تترك السجائر إن لم تترك القلم، ثلاث ساعات متواصلة من الكتابة معناها ثلاث ساعات متواصلة من التدخين، وجاءت السجائر بعد محاولات يائسة لشرب الشيشة والبايب خلال الكتابة، وذلك لم يحتاجوه من خدمة واهتمام.

الروتين والانضباط... طريقك للعالمية

كما يتضح من الفقرات السابقة، فحياة الأديبين لم تخلُ من الروتين وهو سر نجاحهما، بل يمكن أن يكون سر نجاح الإنسان في العموم، فالروتين الذي نجح به محفوظ أثناء دراسته، هو ما نجح به في حياة الأدب، وحتى بعدما ترك الوظيفة بعد معاشه، لم يقرر أن يفعل ما يحلو له بل وضع نظاماً آخر وروتيناً ثانياً للكتابة فيه ثلاث ساعات أيضاً ولكن هذه المرة من العاشرة صباحاً للواحدة ظهراً، وقد جرب نجيب في بداية روتينه مشكلة كبيرة وهي الأفكار والإلهام الذي يأتي له فجأة خلال يومه، بل والحاجة الملحة للكتابة حينما يستيقظ من النوم فجأة، لكنه مع ذلك يقول إنه كان يعرف أن الكتابة بالليل ستؤثر في الوظيفة في الصباح، بالتالي سيتأثر النظام القائم، مع مرور الوقت كان شغف الكتابة، وتنزل الأفكار يأتيه بحسب روتينه وجدوله، وبعدما كان يجلس ساعة لا يدري ماذا يكتب، أصبحت رأسه لا تتوقف كل يوم لمدة ثلاث ساعات.

يتخيل بعض الناس أيضاً أن هاروكي لم يتوقف يوماً واحداً عن روتينه منذ بدأ رحلته الأدبية وهذا الأمر غير حقيقي، إذ يرتبط روتينه بالكتابة نفسها، فحينما يقرر أن يبدأ رواية يبدأ بروتينه الصارم، الذي يستمر فيه لعام أو عامين حتى ينتهي من الرواية. المشكلة أن هذه الروتينيات، وهذه الالتزامات الصارمة في عصرنا السريع والمتسارع، الذي لا ينتظر شيئاً ويتغير بلا توقف، يجعل من المستحيل أن نطبقها، لكن يبدو أن كل الطرق تؤدي إلى الانضباط، وأن علينا أن نضحي بأشياء لنفوز بأخرى. في النهاية كل الحياة روتينية، ومنظمة بعضنا يضع نظامه الخاص حتى يوصله للنقطة التي يريدها، والبعض الآخر يترك نفسه لنظام عشوائي يجد فيه نفسه، تلقيه أمواجه حيث شاءت.

# نجيب محفوظ # هاروكي موراكامي # أدب

بين الحزن والانتظار: فيروزية المشرق ومشرقية فيروز
«لقد تم حظرك»: النساء لسن فقط في صالون التجميل
حوار | أشرف العشماوي: لا أكتب لنيل الجوائز

فن